المقال الكامل: الطفل الذي يحفظ أرقام الموتى
## البداية في مقهى شعبي
كان مقهى أبو عصام في وسط عمّان مليان بالزبائن المعتادين. رجال كبار في السن يلعبوا طاولة ونرد، يشربوا الشاي ويحكوا عن الأيام الحلوة.
لكن الولد الصغير اللي قعد في الزاوية كان مختلف. حمزة، 8 سنوات، شعر أشقر وعيون زرقاء واسعة. كان قاعد لوحده على طاولة صغيرة، وقدامه دفتر وقلم.
أبو عصام، صاحب المقهى، لاحظ إنه الولد بيكتب أرقام هواتف. أرقام كتيرة. صفحات وصفحات.
"يا زلمة، شو بتعمل؟" سأله أبو عصام بفضول.
"بكتب أرقام الناس"، رد حمزة بصوت هادئ.
"أي ناس؟ أهلك؟"
هز حمزة راسه بالنفي. ثم رفع عيونه الزرقاء الواسعة وقال: "ناس ما بعرفهم. بس بحفظ أرقامهم."
## الاختبار الصادم
أبو عصام ما صدق. طلب من أحد الزبائن، عم فيصل، يعطي الولد رقم هاتفه عشان يشوف إذا بيقدر يحفظه.
عم فيصل قال رقمه مرة وحدة: "0799-847-362"
حمزة سمع الرقم، أغمض عيونه ثانيتين، وفتحها وقال: "عم فيصل فيصل محمود الخوري، ساكن في جبل اللويبدة، الرقم 0799-847-362."
عم فيصل وقف من مكانه مصدوم: "منين بتعرف اسمي الكامل وين ساكن؟!"
## السر يبدأ ينكشف
حمزة ابتسم ابتسامة حزينة وقال: "إنت اتصلت على بيتنا كتير مرات السنة الماضية. كنت تسأل عن بابا."
عم فيصل قعد على الكرسي وهو مش قادر يستوعب: "مين بابا؟"
"أحمد سالم الطويل. كان يشتغل معك في الورشة."
الصمت خيم على المقهى كله. عم فيصل حط إيده على قلبه وقال بصوت مرتجف: "أحمد... صديقي أحمد... مات في الحادث السنة الماضية."
## الحقيقة المؤلمة
حمزة هز راسه وقال: "آه، مات. وأنا ضل أسمع صوتك على الهاتف كل يوم. إنت وناس كتير تانيين. كلكم كنتوا تتصلوا وتسألوا عن بابا، وماما كانت تبكي وتقول 'مات، خلاص مات'."
"فضلت أحفظ أرقامكم. كل رقم اتصل على بيتنا بعد موت بابا، أنا حفظته. صرت أحفظ الأسماء والأصوات كمان."
عم فيصل ما قدر يتحمل أكتر. وقف ورح عند حمزة وحضنه: "حبيبي... ليش ما قلت لماما تعطيني عنوانكم؟ كنت أجي أزوركم."
## الموهبة الخارقة المولودة من الحزن
الدكتور ماجد عوض، اختصاصي علم النفس، شرحلي الظاهرة: "بعض الأطفال اللي بيمروا بصدمات نفسية قوية، بتتطور عندهم قدرات ذاكرة استثنائية. العقل بيحاول يحافظ على كل تفصيلة مرتبطة بالشخص المفقود."
"حمزة ما كان بس يحفظ الأرقام، كان بيحفظ آخر رابط بينه وبين أبوه. كل شخص اتصل يسأل عن الأب، صار جزء من ذكرى الطفل."
## الاكتشاف المذهل
لما سألوا حمزة يكتب كل الأرقام اللي بيحفظها، طلع عنده 50,847 رقم هاتف. كل رقم مع اسم صاحبه ومعلومات شخصية عنه.
"هاد رقم عم سمير اللي بيشتغل في البنك، اتصل 3 مرات يسأل عن بابا."
"وهاد رقم أبو محمد اللي بيبيع الخضار، كان صديق بابا من المدرسة."
"وهاد رقم الدكتور نبيل اللي كان بيداوي بابا."
كل رقم عنده قصة. كل رقم عنده ذكرى.
## الأم المنكسرة
أم حمزة، فاطمة، حكتلي بعيون دامعة: "بعد موت أبوه، حمزة تغير كلياً. صار يقعد جنب الهاتف كل يوم، وكل ما حد يتصل، يسمع الرقم ويحفظه."
"في البداية ظنيت إنه مجرد طريقة عشان يتذكر أبوه. بس بعدين اكتشفت إنه بيحفظ أرقام أشخاص ما شافهم في حياته."
"كان بيقولي: 'ماما، كل هدول الناس بيحبوا بابا. أنا بدي أفتكرهم عشان أفتكره.'"
## الشبكة المخفية من المحبة
أغرب شي اكتشفوه إن حمزة ما كان بس يحفظ أرقام أصدقاء أبوه. كان يحفظ أرقام أشخاص اتصلوا غلط، أرقام مكاتب حكومية، أرقام دكاترة وممرضين من المستشفى.
"كل شخص كان له علاقة بحياة بابا، حتى لو علاقة بسيطة، أنا حفظت رقمه"، قال حمزة.
لما راجعوا الأرقام، اكتشفوا شبكة ضخمة من الناس اللي كانوا يحبوا أبو حمزة أو يحترموه. سواقين تكسي، أصحاب محلات، معلمين، جيران من أحياء بعيدة.
## المفاجأة الكبرى
عم فيصل قرر يعمل شي مميز. اتصل على كل رقم في دفتر حمزة وحكالهم القصة.
"بدنا نتجمع كلنا ونزور أم حمزة وحمزة. بدنا نوريهم إن أحمد لسه محبوب ومفتقد."
يوم الجمعة الماضي، وصل لبيت حمزة أكتر من 200 شخص. كلهم جايين عشان يسلموا على ابن صديقهم أحمد.
## اللحظة التي غيرت كل شيء
لما شاف حمزة كل هالناس، وقف في وسط الصالة وقال بصوت واضح: "شكراً إنكم جيتوا. بابا كان بيحكيلي دايماً إن الناس الطيبين كتار في هاد العالم. هسا أنا شفتهم."
ثم فتح دفتره وبدأ يقرأ أسماء وأرقام: "عم سمير من البنك، أبو محمد بياع الخضار، الدكتور نبيل، عم فيصل من الورشة..."
كل واحد كان يسمع اسمه، كان يتقدم ويحضن حمزة. وحمزة كان يقوله: "بابا كان بيحكي عنك."
## النهاية الجديدة
اليوم، حمزة لسه بيحفظ الأرقام. بس مش أرقام الماضي. صار يحفظ أرقام جديدة لأصدقاء جدد.
عم فيصل صار يزوره كل أسبوع ويخده يتمشى. أبو محمد بيجيبله خضار وفواكه مجاناً. والدكتور نبيل صار يتابع صحته بدون أجر.
وحمزة؟ لسه عنده موهبة حفظ الأرقام. بس هسا بيستعملها عشان يحفظ أرقام الناس اللي بيحبوه، مش بس اللي كانوا يحبوا أبوه.
**السؤال الأخير: كم رقم هاتف بتحفظ إنت؟ وكم شخص منهم بتتصل عليه عشان تطمن عليه؟ أحياناً أبسط اتصال ممكن يغير حياة إنسان تاني.**